المعتمد بن عباد ثالث ملوك بني عباد وآخرهم وعميد ملوك الطوائف
المعتمد بن عباد و زوجته رميكة |
مقدمة
المعتمد بن عباد، عميد ملوك الطوائف في الأندلس، وحاكم أوسع رقعة جغرافية فيها، سليل عائلة لعبت دورا في السياسة والرياسة والقضاء في الدولة الأموية بالأندلس، وشاعر من أكابر شعرائها، وواحد من أسمائها اللامعين في ميدان الحرب. ولد غرب الجزيرة الأندلسية عام 432هـ/1041م، ومات أسيرا لدى المرابطين في أغمات بالمغرب عام 488هـ/1095م.
المولد والنشأة
ولد المعتمد أبو القاسم محمد بن عباد سنة 432هـ/1041م في مدينة باجة جنوب البرتغال، وعَرف السياسة والحرب في سن صغيرة، حيث أوكل إليه أبوه المعتضد بن عباد إمارة مدينة “أونبة/وَلْبة” (جنوب غرب إسبانيا حاليا)، وعينه قائدا للجيوش، وكلفه بالكثير من المهمات الصعبة وهو دون الخامسة عشرة من عمره، ولما توفي والده كان واليا على مدينة شِلْب (أقصى جنوب البرتغال) التي سيطر عليها بنو عباد عام 455هـ.
كان والد جده إسماعيل بن عباد يرأس سلك القضاء بإشبيلية منذ أيام المنصور بن أبي عامر (ت: 392هـ)، كما تولى إدارة الشرطة في عهد هشام المؤيد بالله (ت: 403هـ)، وقد ولي كذلك الإمامة والخطابة في الجامع الأعظم، وكان إلى جانب ما يمتاز به من علم وحكمة سليل عائلة عربية رفيعة الشأن في الأندلس، منسوبة إلى اللخميين ملوك الحيرة في الجاهلية.
ولما دبت الفوضى في الأندلس على إثر الخلاف بين الحاجب عبد الرحمن العامري والبيت الأموي سنة 399هـ، وما تلاها من فتنة اشتعل أوارها في قرطبة وما حولها، سارع القاضي ابن عباد إلى ضبط الأمور في إشبيلية وحفظ النظام فيها، وقد استطاع جمع الناس حوله وحشدهم لتأييده، وهو ما أكد تدعيم مكانته سياسيا، فضلا عما كان يشغله من مكانة معنوية وعلمية. وقد وصفه مؤرخ الأندلس ابن حيان القرطبي (ت: 469هـ) بـ”رجل الغرب (أي غرب الأندلس) قاطبة”.
خلَف أبو القاسم محمد بن عباد (جدّ المعتمد) والده القاضي إسماعيل في القضاء والرياسة، وقد عُدّ أبو القاسم أول ملوك بني عبّاد ومؤسس دولتهم، ولُقّب بذي الوزارتين، واجتمع فيه من ميراث أجداده الدهاء والحكمة والرغبة في السلطة، فكان يعمل في هدوء وأناة على التخلص من منافسيه، كما استطاع بصبر وتؤدة أن يوسع مملكته شرقا وغربا، غير أنها لم تبلغ ما بلغته على يد ابنه عباد بن محمد أبي عمرو الملقب بالمعتضد بالله (والد المعتمد بن عباد).
وقد أسهب كثير من المؤرخين في الإشادة بصفات المعتضد وذكر ما له من خلال القوة والغلبة، فضلا عن شاعريته التي كانت سمة كثير من أفراد هذا البيت وقادته.
قال عنه ابن حيان -وهو معاصر له- إنه “زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك وشهاب الفتنة، وداحض العار، ومدرك الأوتار..”، غير أن ابن بسام -وقد عاش قريبا من عصره (ت: 542هـ)- كان أشد قسوة في وصفه حين جاء على ذكره في كتابه الذخيرة، لكنه ألمح إلى تلك الخلال من القوة والسطوة والذكاء، فقال “قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة.. فكفى أقرانه وهم غير واحد، وضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده”.
وكما قال ابن بسام، فقد اتسعت دولة بني عباد في نحو 20 سنة من حكم المعتضد حتى شملت المثلث الجنوبي من شبه الجزيرة الأندلسية وصولا إلى شواطئ نهر الوادي الكبير شمالا، ممتدة إلى منحنى الوادي غربا حتى جنوبي البرتغال وشاطئ الأطلنطي، وبهذا الاتساع صارت أوسع دول الطوائف، وأغناها موارد، وأعظمها قوة عسكرية.
المعتمد بن عباد و ملك قشتالة
غير أن هذه القوة لم تغنه عن موقف الضعف والخنوع أمام ملك قشتالة فرناندو الأول (ت: 458هـ) الذي رأى في تمزق ملوك الطوائف واقتتالهم الفرصة السانحة لينقض عليها واحدة تلو أخرى حتى تذعن لسلطانه، فتدفع له الجزية عن يد وهي صاغرة، فكان أن غزا بطليوس وإشبيلية عام 445هـ، مما اضطر ابن عباد إلى أن يطلب الصلح ويتعهد بدفع الجزية كما فعل جيرانه من ملوك الطوائف.
وقد دفعه عنفوانه وحبه الملك والسلطان إلى جعل إشبيلية قاعدة للقصور الباذخة والحدائق الغناء، وكان من قصور هذه المدينة: قصر “الإمارة”، وهو القصر الذي كان يدير منه الحكم، وقصر “الزاهي”، وهو الذي اتخذه مكانا للهو والمجون الذي اشتهر به، وهو كذلك النادي الذي سامر به الشعراء والأدباء وسما عليهم بما أوتي من أدب وظرف وشاعرية عالية ورثها منه ابنه المعتمد، كما ورث منه صفات أخرى جعلت منه عميد ملوك الطوائف قاطبة.
التجربة السياسية
كان المعتمد على الله محمد بن عباد يوم تولى الحكم بعد وفاة أبيه شابا في الثلاثين من عمره، وكان مثل أبيه في حسن القوام وعنفوان الصبا، غير أنه كان مخالفا له في الصرامة والعنف، ميالا إلى التسامح والتساهل، وقد كان مولعا بالخمر منغمسا باللذات على ما ذكر المؤرخون من صفاته.
لكن انغماسه في اللهو لم يكن ليصرفه عن النهج الذي رسمه أجداده في توسيع مملكة بني عباد ومتابعة سياستهم في القضاء على الممالك المجاورة لهم، خاصة الممالك البربرية جنوب الجزيرة الأندلسية، والتي كانت -بسبب إشرافها على البحر- قناة اتصال مع المغرب الأقصى، يأتيها منه أمداد العسكر والسلاح.
وفي خضم صراعه مع خصومه في مملكة غرناطة ومالقة، الذين استعانوا بملك قشتالة ألفونسو السادس، أرسل المعتمد وزيره الشاعر أبا بكر بن عمار (ت: 477هـ) إلى ملك قشتالة كذلك، فعقد معه صلحا دفع بموجبه 50 ألف دينار، على أن يعينه في السيطرة على غرناطة، وكان في هذه السياسة متابعا لنهج والده في الاستعانة بالنصارى في شمال الجزيرة لتوسيع دائرة ملكه وسلطانه على حساب جيرانه المسلمين.
ولم يكن هذا الحلف بين ملكَيْ قشتالة وإشبيلية على وتيرة واحدة من المهادنة والخنوع، فقد حدث في يوم أن أغلظ رسول ألفونسو على قادة المعتمد ورفض تسلّم الجزية بزعم أنها من الذهب الزائف، فقام إليه المعتمد وصلبه وألقى فرسانه في السجن، مما اضطر ملك قشتالة إلى أن يرد للمعتمد حصنا قريبا من قرطبة، وكان من أثر ذلك أن يبادر ألفونسو مرة أخرى إلى حصار إشبيلية وتخريب زروعها وأراضيها.
ولم يستيقظ المعتمد من نشوته التي خلقها له طموحه العارم في السيطرة والغلبة إلا على أنباء سقوط مدينة طليطلة في يد ألفونسو سنة 478هـ/1085م، وهو الذي كان يمده بالمال والمعونة للقضاء على ممالك إخوانه من ملوك الطوائف كما كانوا يفعلون هم، واستشعر حينها أن هذا السقوط منذر بالخطر الداهم الذي يتهدد ملكه، بل يهدد ملك المسلمين جميعا لشبه الجزيرة الأيبرية.
المعتمد بن عباد و المرابطين
ولما أدرك المعتمد خطر السياسة التي انتهجها في الإذعان لقشتالة، بادر إلى الكتابة لملك المرابطين يوسف بن تاشفين في عدوة المغرب يخبره بما آل إليه وضع الجزيرة الأندلسية، ويستنصره للدفاع عن المسلمين الذين انكشفوا على النصارى جراء سياسات حكامهم من ملوك الطوائف.
وقد التف حول هذه الفكرة أكثر قادة الأندلس، فبعثوا بالسفارة إلى ابن تاشفين الذي استجاب بدوره إلى المناصرة، فأرسل بقواته إلى الأندلس، واستقرت في الجزيرة الخضراء التي كانت تحت سيطرة المعتمد وفقا للاتفاق بين الطرفين سنة 479هـ/1086م.
معركة الزلاقة
ولما سمع ألفونسو بخبر وصول المرابطين إلى الجزيرة، حشد قواته التي كانت متفرقة في نواحيها المتباعدة، واستصرخ أمراء النصارى في الشمال وما وراء جبال البيرنيه (الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا) الذين تقاطر إليه من فرسانهم عدد كبير، فسار بهم إلى أرض أعدائه حتى لا يجترئوا على أرضه حال الهزيمة، وقد بلغوا نحوا من 80 ألف مقاتل، في حين بلغ عدد مقاتلي المسلمين النصف من هذا العدد.
وفي يوم الجمعة 12 رجب 479هـ، الموافق 23 أكتوبر/تشرين الأول 1086م، شن النصارى بقيادة ألفونسو ملك قشتالة الهجوم على معسكر المسلمين بقيادة المعتمد بن عباد وعدد من ملوك الطوائف، وبدعم كبير من ملك المرابطين يوسف بن تاشفين في ما عرف بمعركة الزلاقة.
وكانت المعركة بين الطرفين سجالا، فكانت الغلبة أول الأمر للقشتاليين، حيث هاجموا معسكر المسلمين بضربات عنيفة أدت إلى اختلال صفوفهم وتراجعهم إلى بطليوس غرب إسبانيا، وكادت الدائرة تدور عليهم، حتى دفع ابن تاشفين بقواته إليهم من مؤخرة الجيش فرجحت كفة المسلمين.
وحوصرت جيوش ألفونسو وأصيب إصابات بالغة، فأدرك أنهم يواجهون الموت والغلبة إذا استمروا في المعركة، فاعتصم ومن معه بتل قريب، ثم انسحبوا في جنح الظلام إلى قواعدهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة.
ذاعت أخبار النصر في جنبات العالم الإسلامي، وذاعت معها بطولات المرابطين وأميرهم الذي لقب بأمير المسلمين، غير أن بطولات ابن عباد لم تكن أقل من تلك، بل إن ابن تاشفين نفسه أثنى عليه في رسالته التي بعث بها إلى قاعدته بالمغرب، فقال “ولم يثبت من زعماء الأندلس إلا زعيمهم ابن عباد”، فقد كان الرجل مستشعرا خطر القشتاليين على ملكه، فضلا عن شعوره بأخطائه السياسية التي أسفرت عن تغول ألفونسو على ملوك الطوائف وخنوعهم له.
المرابطون و نهاية ملوك الطوائف
ولم يمض عامان حتى استدعى الأندلسيون ابن تاشفين مرة ثانية مستنصرين به على النصارى، غير أنه في المرة الثانية كان قد تغير على زعماء الجزيرة بعد أن رأى بعينيه تفرقهم وشدة بعضهم على بعض، ولمس نوعا من التواصل السري بين بعضهم وبين ملك قشتالة، فعزم في المرة الثالثة التي وصل فيها إلى الأندلس على إنهاء حكم الطوائف إلى الأبد.
وكان ابن تاشفين قد استشار بعض أكابر علماء المسلمين، وعلى رأسهم حجة الإسلام الغزالي (ت: 505هـ) وأبو بكر الطرطوشي (ت: 520هـ) وغيرهما من علماء المشرق والمغرب، الذين أفتوه بذلك في محاولة لإنهاء معاناة مسلمي الأندلس من حكامهم.
وقد نما إلى ابن تاشفين أن عددا من ملوك الطوائف قد عاد إلى التواصل مع القشتالين وعقد الأحلاف معهم للتخلص منه وطرده من الجزيرة، وكان على رأسهم ابن عباد ملك إشبيلية واسطة عقد الأندلس، الذي استشعر هذه المرة خطر المرابطين على حكمه، فتحركت فيه دوافع السلطة وحب الملك ملجئة إياه إلى ألفونسو مرة أخرى.
استولى المرابطون على قواعد مملكة إشبيلية واحدة تلو الأخرى، حتى حاصروا عاصمتها -التي تحصن فيها ابن عباد مستعينا بألفونسو الذي أرسل عددا من فرسانه إليها- زهاء 4 أشهر استبسل فيها ابن عباد للدفاع عنها بسالة نادرة، حتى استطاعوا أن يثلموا في جدرانها ثلما، فاقتحموها في 22 رجب 484هـ الموافق 7 سبتمبر/أيلول 1091م، ودخلوا المدينة ونهبوا قصورها وخربوا بناءها وأسروا ملكها الجريح المعتمد وقتلوا عددا من أبنائه وفرسانه، وأرسلوه إلى أميرهم ابن تاشفين في عدوة المغرب.
التجربة الشعرية والأدبية
أوتي ابن عباد حظا وافرا من الأدب وقدرة عالية في نظم الشعر، ولا غرو؛ فقد كان سليل عائلة عُرفت بحبها الأدبَ والقريض، وقد جمعت حولها نوابغ الشعراء والأدباء في دولتهم التي ضمت إلى أسوارها قرطبة حاضرة الغرب الإسلامي آنذاك وعاصمة العلم والأدب.
وقد توافد على بلاط بني العباد من الشعراء ابن حمديس (ت: 527هـ)، وابن زيدون (ت: 463هـ) صاحب النونية المشهورة، وأبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة (ت: 507هـ). وكان أقرب شعراء الأندلس إلى المعتمد وأكثرهم وفاء له: أبو بكر بن عمار، وزيره الذي غضب عليه وقتله ثم ندم على ذلك أشد الندم.
ومن شعر المعتمد الذي حمي وتتابع بعد أن حلت به النكبة وأسر، قوله:
سَلَّت عَلَيَّ يَدُ الخُطوب سُيوفَها .. فَجذَذنَ مِن جِلَدي الخَطيفَ الأمتَناضَرَبَت بِها أَيدي الخُطوبِ وَإِنَّما .. ضَرَبَت رِقابَ الآمِلينَ بِها المُنىيا آملي العادات مِن نَفَحاتِنا .. كُفّوا فَإِنَّ الدَهرَ كَفّ أَكُفّنا
ومنه كذلك:
لِنَفسي إِلى لُقيا الحِمامِ تَشوُّفٌ .. سِوايَ يُحِبُّ العَيشَ في ساقِهِ كَبلُأَلا عَصَمَ اللَهُ القَطا في فِراخِها .. فَإِنَّ فِراخي خانَها الماءُ وَالظِلُّ
قَيدي أَما تَعلمني مُسلما .. أَبَيتَ أَن تُشفِقَ أَو تَرحَمادَمي شَرابٌ لَكَ وَاللَحمُ قَد .. أَكَلتهُ لا تَهشم الأَعظُما
وأشهر شعره ما قاله في سجنه بأغمات في المغرب لما رأى بناته في ثيابهن الممزقة يغزلن للناس، يستعنّ بذلك على الحاجات وقد تلطخن بالطين، وكنّ إذا اشتهين وطء الأرض فرش لهنّ المسك والكافور حتى لا يصيب شيء من الأرض أجسادهن الرخْصة، فقال:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا .. فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسوراتَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً .. يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرابَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً .. أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرايَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ .. كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكا وَكافورالا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ .. وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطوراأَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ .. فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيراقَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً .. فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورامَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ .. فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
نهاية المعتمد بن عباد
أنزل ابن تاشفين المعتمد ابن عباد وزوجه وبناته وأحد أولاده في أغمات جنوب مراكش، ولم يعاملهم معاملة كريمة كما فعل ببعض زعماء الطوائف الآخرين، بل أبقاه في الأغلال، وضيّق عليه العيش حتى اضطره وزوجه إلى العمل لكفاية نفسه، وجرّعه غصص المهانة والذلة، فاشتدت وطأة السجن على زوجته المدللة اعتماد الرميكية، والتي كانت أحب نسائه إليه، وكان قد اشتق لقبه “المعتمد” من حروف اسمها، فتوفيت بعيد وصولهم إلى سجنهم.
وفي 11 شوال 488هـ، توفي المعتمد على الله محمد بن عباد مكبلا بأغلاله بعد اعتقال دام زهاء 4 أعوام، وكانت سنه حينها 57 سنة، ودفن إلى جوار زوجته اعتماد في أغمات بالمغرب.